اقترب محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش من ثورة يوليو لكن أم كلثوم بتركيبتها الريفية البسيطة كانت بذرة جيدة لتبنى فكر الثورة
أغنية ثوار.. غنوة ما حصلتش، كتبها شاعر مرعب وملحن عبقرى
لو درسنا طريقة نطقها فى: الشعب بيضحك زى النور.. الشعب جبال.. الشعب بحور ستجد درسا فطريا لكل مخلوق عربي
الحب فى أغانيها لم يكن حباً ذليلاً.. فنفسية المرأة التى كانت مستعدة أن يقبلها الرجل وقتها ليست المرأة القوية أو الند للند أو التى تمسك السكين وتقطعه وتضعه فى كيس
فى لحن حانة الأقدار لمحمد الموجى كل الغناء العربى.. أما السنباطى فهو الذى يعرف 99 اسما من مائة فى الموسيقى.. وبليغ دقاق المشاعر.. وزكريا أحمد جملة إنسيابية ونفس طويل
الجلوس فى حضرة الفنان الرائع عمار الشريعى متعة بلا حدود.. تشعر بها أن بمقدورك تسلق الجبال، والتحليق فوق السحاب.. وإنتزاع موعد مع عمار هو معركة فى حد ذاتها تستحق الخوض، لأن ما يعطيه كنزا ثمينا لا يختفى بريقه أبدا.. وقبل فترة دخلت المعركة حتى حصلت منه على هذه الشهادة الممتعة الكنز عن سيدة الغناء العربى أم كلثوم وخاصة فى علاقتها مع ثورة يوليو وجمال عبدالناصر. وما قدمته من أغان وطنية، والسمات الخاصة لفنها الجميل..
- قلت لعمار.. للغناء العربى محطات فارقة.. كانت ميلاداً للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وأم كلثوم هى تاريخ طويل فى هذا.. صب فى نهره أحداث وتحولات فأين ثورة يوليو من هذا؟
-- أنا رأيى ولازم أقول إنه مبنى على استنباط شخصى أو استقراء شخصى.. ثورة يوليو لما قامت كان يوجد بالفعل كوادر متينة موجودة وراسخة، وأسمح لى أن أستخدم تعبير كوادر.. هذه الكوادر أو القمم على سبيل المثال أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش.... وهؤلاء الثلاثة كان أمام القيادة السياسية الجديدة إما أن تعتمدعليهم أى على ما هو موجود.. وهنا تقع القيادة فى محظور من اثنين إما أن تفقد مصداقيتها أو يقال: عظيم الذين غنوا للملك غنوا لها لكنها سكة مثل حقل الألغام لا تضمن نتائجها.. أما الاختيار الثانى فهو تخليق قيادات خاصة بها تحمل فكرها وبالتالى تحمل لها ما قد تفعله دون قيد أو شرط أى تحمل مصداقيتها بشكل كامل.. أما الاختيار الثالث فكان هو أن تمسك العصا من الوسط، تخلق قيادات جديدة.. وتحاول أن تستميل القيادات الموجودة.. وهو ما حدث بالفعل، وكانت الشخصية المصرية مؤهلة بالفعل للثورة، والشخصية المصرية هنا تشمل الفنانين المصريين أيضا والدليل على ذلك هو أن عبدالوهاب قبل الثورة بسنة عمل رائعة كامل الشناوى نشيد الحرية كنت فى صمتك مكرها... وأم كلثوم عقب الثورة بأيام قليلة قدمت لرياض ورامى صوت الوطن وليلى مراد قدمت مع مدحت عاصم الاعتماد على الإله القوى ناهيك عن أدوار زى محمد قنديل ع الدوار كان هناك استعداد واحتشاد من جماهير الفنانين المصريين مستعدين وعاوزين الثورة.
لو مسكنا تاريخ عبدالوهاب وأم كلثوم مع العهد السابق للثورة أى مع الملك، الاثنان كانا ينظران اليه على أنه ملك أم كلثوم نالت نيشان الكمال عبدالوهاب غازل الملك مرارا وعمل له أغانى الفن، مع صالح جودت و.. الشباب، وهل السلام، ولم يرد الملك الغزل وبالتالى كان عبدالوهاب فى اعتقادى هو الأقرب للثورة كاستعداد شخصى بمعنى إنه قرفان من الملك.. يعنى أكيد كان بيكلم نفسه: أنا غنيت لك وأعطيت يوسف وهبى الباكوية وأم كلثوم نيشان، فلماذا لم تعطنى شيئا.. إذا عبدالوهاب بداخله شعور غير متعاطف مع الملك وهذا ما جعله يتعاطف مع الرأى العام ويعمل نشيد الحرية، لكن بالرغم من ذلك فى رأى شخصى لى أن السيدة أم كلثوم كانت الأقرب للثورة بحكم تربيتها ونشأتها الشخصية وانغماسها فى الطين المصرى الذى استمر معها حتى موتها، الست دى لما تسمعها فى حوارها مع وجدى الحكيم قبل رحيلها بسنوات قليلة، لم تكن قد غادرت بأمتار قليلة قريتها طماى الزهايرة هى نفس الفلاحة، لو نتصور ريقها اللى يجرى على طبق المهلبية وهى طفلة صغيرة نتأكد أنها مغموسة بالنخاع فى الطين المصرى، هذه التشكيلة بطبيعتها بذرة جيدة لتبنى فكر الثورة... تشعر بهذا فى كثير من نوع الأغانى التى غنتها.. مثل أصون كرامتى من أجل حبى... الذى يقول ذلك واحد لديه شعور بعزة النفس.. تقول لى ما هى قالت: عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك، أقولك على طول أن بعدها بتقول: وتجيب خضوعى منين ولوعتى فى هواك.. أقول فى أول الأغنية، حرمتنى من نار حبك وأنا حرمتك من دمعى يعنى أتألم من غير أن أبكى، ويعنى فهم الأغنية على أنها حب يمكن يكون مستباحا أو خنوعا لكن رد الحبيب ليس خانعا فى معظم الوقت.
يدلل عمار على سرعة تجاوب تركيبة أم كلثوم مع الثورة قائلا:
هذه التركيبة كما قلت هى بذرة جيدة جدا لتبنى فكر ثورى وللتعامل معه وللمشاركة فيه.. أذكر تسجيلا إذاعيا أنا سمعته لها غنت فيه صوت الوطن وكان لأول حفلة لضباط الجيش الشباب وشارك فى الحفلة أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش، وحصل كلاش بين فريد والضباط، دخل قال لهم: مساء الخير يا باشاوات فهاجوا فيه لأنهم كانوا قد أصدروا قرارا بالغاء الباشوية هذه الحفلة تغنى فيها أم كلثوم صوت الوطن مصر التى فى خاطرى.... أقسم بالله أنا ما بقيت قادر أحوش دموعى، والله العظيم أصغر شعرة فى جسمى كانت واقفة زى النسر.. إحساس يفوق الوصف، لدرجة أنها فى آخر الأغنية وفى مقطع نحبها من روحنا ونفتديها بالعزيز الأكرم كل الشباب الضباط بيغنوا معاها.. حاجة تخلى قلبك يسيب ضلوعك ويمشى.
أضف الى ذلك أن الضباط الشباب كانوا بيحبوا أم كلثوم وطبعا كانوا بيحبوا عبدالوهاب، الرئيس جمال عبدالناصر كان يحب مثلا همسة حائرة لعبدالوهاب، وأم كلثوم وعبدالوهاب اقتربا بنفس القدر وكل بطريقته، عبدالوهاب بحذره.. وأم كلثوم باندفاع إتساقا مع شخصيتها، وباعتبار أن شيئا مؤجلا فى شخصيتها قد ظهر مع لحظة الثورة.
دخلت المسألة من الجانب العام الى الجانب الشخصى طبعا أنت تعرف دور أم كلثوم كصديقة حميمة للسيدة الراحلة تحية عبدالناصر، وصديقة بمعنى الصديقة حيث تحملت معها الكثير... منها مثلا أنها تكون موجودة ضمن الوفد النسائى الذى يقابل زوجة رئيس ما يزور مصر، أى واحدة من ضمن البيت.. وأذكر مثلا حسب ما رواه لى البعض أن الرئيس عبدالناصر دخل مرة على تحية وأم كلثوم، قالت له أم كلثوم: مش تخبط يا ريس، اتنين ستات قاعدين مع بعض، فضحك وقال لها حاضر يا ست، وخرج وخبط على الباب ليستأذن فى الدخول.
قيادات الثورة بادلوا أم كلثوم حبا بحب، أصبحت هى اللسان الغنائى للثورة بل اتنسى تاريخها الملكى، وأنا لا أقصد حين أقول هذه العبارة أى إساءة لأم كلثوم، هى لم تفعل ما يسئ أقصد أن الضباط نسوا غناءها للملك، وأنه أعطاها نيشان.. الناس لم تعد تتذكر شيئا من هذا، وأصبحت ذاكرتها فيها والله زمان يا سلاحى وصوت السلام وقصيدة وفق الله خطانا وثوار وطوف وشوف وكل الأغانى الأخرى.
تعاونت أم كلثوم مع كل الشباب اللى طالع مع الثورة ولعبت معهم لخدمة الثورة، وأولهم محمد الموجى فى غنوة الجلاء ويامصر إن الحق جاء عام 1954.. لعبت مع كمال الطويل وصلاح جاهين والله زمان يا سلاحى.. ومع السنباطى وجاهين الأغنية العبقرية ثوار هى فى اعتقادى وطنية عربية شرقية بمفهوم الموسيقى بالاضافة الى أنها تتسم بمسحة إنسانية تقدمية.
تعالوا يا أجيال يا رمز الأمل
من بعد جيلنا واحملوا ما حمل
وافتكروا فينا واذكرونا بخير
ما هذا الشاعر المرعب، ومن هذا الملحن العبقرى.. إيه اللى بيعمله فى اللحن ده.. ده جنون.. والست أم كلثوم يخربيت كده لا.. لا.. دى غنوة ما حصلتش.
المهم زى ما اتفقت إنها كانت لسان الثورة أو أحد ألسنتها وأصابعها، وكانت هى اللى وقفة ورا الثورة بسمتها فى الانتصارات.. ودرعها فى الهزائم.
لو تفتكر معايا صوت السلام بعد الإنتصار على العدوان الثلاثى عام 1956.. قال بيرم التونسى: الأولى دخلة البلاد مستعمرة
والثانية فكرها مقدرة
والثالثة على العرب متأجرة.... تقصد إنجلترا وفرنسا واسرائيل. وحين تعرضت الثورة للانكسارات كانت أم كلثوم هى الدرع الواقى هى التى قالت:
إبقى فأنت الأمل الباقى لغد الشعب
أبقى فأنت حبيب الشعب
هى التى قالت: إنا فدائيون نغنى ولا نموت
هى التى قالت: رجعين بقوة السلاح
هى التى قالت: أصبح عندى الآن بندقية
ودخلت حرب الاستنزاف بكل طاقتها وعملت الحفلات من أجل المجهود الحربى.. عملت اللى تقدر تعمله ماتت يوم موت جمال عبدالناصر والدليل أول حفلة طلعت فيها بعد وفاة عبدالناصر... الحفلة كانت فى يناير أو فبراير أى بعد 4 أشهر.. غنت ودارت الأيام وبكت فى الكوبليه الأخير قالت الموال وبكت، وبعدت عن الميكرفون شوية لكن البكا طالع، والناس صفقت بجنون، أنا كنت محترف الموسيقى منذ خمسة أشهر تقريبا، وكنت قاعد أنا وأصحابى بنسمع كنا خمسة، والله العظيم قلنا فى نفس واحد هى افتكرت عبدالناصر، وقبل ما تغنى كنا بنقول إخص عليك يا ست طيب يفوت على الراجل سنة وبعدين غنى.. هيجيلك نفس تغنى إزاى لما بكت كلنا قلنا افتكرت عبدالناصر.
لماذا لم تعتزل؟
لو أم كلثوم بطلت غنا بعد موت عبدالناصر.. ماتت قيمة من أكبر وأجمل القيم التى زرعت فى عهده، كان لازم حد يبطلها غنى.. أو تفضل تغنى لحد ما تموت، أو أيد تبطلها غنى فتحتمل وزر هذا لدى الشعب المصرى، لكن لم يكن يغفر لها الشعب أن تعتزل فور موت عبدالناصر لأن معناه إن عبدالناصر مات وقيمة ماتت.. خرجنا أنا وأصدقائى بهذا الإنطباع، وتانى يوم وجدنا الناس بتقول نفس الإنطباع.. اختراعنا الذى قلناه أنا وأصدقائى اكتشفنا إن كل الناس اخترعته، أنا اعتقادى: إن أم كلثوم عاشت فى ظل الثورة عيشة الملك المتوج.. الملك الغنى.. كلهم ملوك.. عبدالوهاب وطبعا عبدالحليم، كلهم، شادية، صباح، نجاة.. فايزة.. رشدى.. كان منظور الثورة للفن إنه الإيد والمخ والقلب.... إنه صانع القضية القومية، تقول الثورة: فيه إتفاقية جلاء وهى دى القضية اللى هنتكلم عنها، يروح طالع عبدالحليم ويقول: إنى ملكت بيدى زمامى وعبدالوهاب يقول.. وأم كلثوم، ويتحول الأمر الى قضية قومية، تقول الثورة يا ولاد، فيه معركة السد العالى والغرب مش راضى يعطينا فلوس، لكن لازم نبنى السد غصب عن الأمريكان: تطلع الأغانى.... تسألنى يا عم سعيد إن هو ده منظور الثورة للفن.. أقول لك الثورة نظرت للفن إنه مفجر ومحرك للقضية القومية ومحفز الجماهير، هى تتقدم وهو يحميها، لم تنظر الثورة أبدا للفنانين أو المطربين إنهم يسلوك أداة تسلية.. التسلية جزء من وظيفتهم لكن ليس كل الوظيفة أو حتى الجزء الأهم وعلشان كده كان اهتمامها بأم كلثوم أكاد أصفه أوصفه بأنه اهتمام بأهداف الثورة الستة، اهتمام بجزء جوهرى فى التركيبة السيكولوجية والعقلية للثورة نفسها.